كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة، وإيقاعها بهم، للرسول صلى الله عليه وسلم وهو بشر منهم مخلوق مثلهم- نسبة غير حقيقية؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع.
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير. ولكن تحقق الخير فعلاً يتم بإرادة الله وقدره. لأنه ليست هناك قدرة- غير قدرة الله- تنشئ الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع. وإذن يكون تحقق الخير- بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده- عملاً من أعمال القدرة الإلهية.
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلاً، ووجوده أصلاً، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله. لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله.
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله.. وهذا ما تقرره الآية الأولى..
أما الآية الثانية:
{ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك...}
فإنها تقرر حقيقة أخرى. ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى.. إنها في واد آخر.. والنظرة فيها من زاوية أخرى:
إن الله- سبحانه- قد سن منهجاً، وشرع طريقاً، ودل على الخير، وحذر من الشر. فحين يتبع الإنسان هذا المنهج، ويسير في هذا الطريق، ويحاول الخير، ويحذر الشر.. فإن الله يعينه على الهدى كما قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. ويظفر الإنسان بالحسنة.. ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسباً.. إنما هي الحسنة فعلاً في ميزان الله تعالى.. وتكون من عند الله. لأن الله هو الذي سن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر.. وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه، ولا يسلك طريقه الذي شرعه، ولا يحاول الخير الذي دله عليه، ولا يحذر الشر الذي حذره منه.
حينئذ تصيبه السيئة. السيئة الحقيقية. سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً.. ويكون هذا من عند نفسه. لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه..
وهذا معنى غير المعنى الأول، ومجال غير المجال الأول.. كما هو واضح فيما نحسب..
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئاً. وهي أن تحقق الحسنة، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره. لأنه المنشئ لكل ما ينشأ. المحدث لكل ما يحدث. الخالق لكل ما يكون.. أياً كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث، وهذا الذي يكون.
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله وموقف الناس منه، وموقفه من الناس. ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية:
{وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}..
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة. لا إحداث الخير ولا إحداث السوء. فهذا من أمر الله- كما سلف- والله شهيد على أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم لأداء هذه الوظيفة {وكفى بالله شهيداً}..
وأمُر الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أطاعه فقد أطاع الله. فلا تفرقة بين الله ورسوله. ولا بين قول الله وقول رسوله.. ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه. ولم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ليجبره على الهدى، ويكرهه على الدين، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال. فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول؛ ولا داخلاً في قدرة الرسول.
بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم.. فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره. وما يصيبهم من حسنة أو سيئة- بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة، سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر، أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع- فهو من عند الله. لأنه لا ينشئ شيئاً ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله.. وما يصيبهم من حسنة حقيقية- في ميزان الله- فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته. وما يصيبهم من سيئة حقيقية- في ميزان الله- فهو من عند أنفسهم، لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته..
والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول. لا ينشئ ولا يحدث ولا يخلق. ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه: وهي الخلق والإنشاء والإحداث. وهو يبلغ ما جاء به من عند الله، فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله. وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول. والرسول ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي.
بعد البلاغ والبيان..
حقائق- هكذا- واضحة مريحة، بينة صريحة؛ تبني التصور، وتريح الشعور؛ وتمضي شوطاً مع تعليم الله لهذه الجماعة، وإعدادها لدورها الكبير الخطير..
بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى- في الصف المسلم- أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلاً جديداً، وفصلاً جديداً! ومع الحكاية التنفير من الفعلة؛ ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم.. كل ذلك في آيات قليلة، وعبارات معدودة:
{ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}..
إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف.. قالوا: {طاعة}.. قالوها هكذا جامعة شاملة. طاعة مطلقة. لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول؛ وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ؛ وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف.
أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها؛ ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص، والتصرف الخاص.. ويكون المعنى أن المسلمين يقولون: طاعة. بجملتهم. ولكن طائفة منهم- وهي هذه الطائفة المنافقة- إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا.. وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم. فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال. وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله؛ والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها!
والله- سبحانه- يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين في الصف. يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر، وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئاً بتآمرها وتبيتها. ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين؛ فلن يذهبوا مفلحين، ولن يذهبوا ناجين:
{والله يكتب ما يبيتون}..
وكانت الخطة التي وجه الله إليها نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة المنافقين، هي أخذهم بظاهرهم- لا بحقيقة نواياهم- والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم.. وهي خطة فتلتهم في النهاية، وأضعفتهم، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفاً وخجلاً.. وهنا طرف من هذه الخطة:
{فأعرض عنهم}.
ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم، التطمين بكلاءة الله وحفظه مما يبيتون:
{وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً}..
نعم.. وكفى بالله وكيلاً. لا يضار من كان وكيله؛ ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة.
وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع القائلين: {طاعة} فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول.. كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وظنهم أن هذا القرآن من عنده! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة. فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل، بأن هذا كلام الله، وبأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.. ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة..
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه له الخالق المنان. يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم.. ويعين لهم منهج النظر الصحيح؛ كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطئ إذا اتبعها ذلك المنهج. وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى.. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى:
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}..
وفي هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته- كما قلنا- كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها. وهي في الوقت ذاته ذات دلالة- كما أسلفنا- لا تمارى!
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبداً.. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها. ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها- بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه- ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى.
ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية. ومستطيع- عند التدبر وفق منهج مستقيم- أن يدرك من هذه الظاهرة- ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق- ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه..
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة.
تتجلى هذه الظاهرة ظاهرة. عدم الاختلاف.. أو ظاهرة التناسق.. ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية.. ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح؛ التوفيق والتعثر. القوة والضعف. التحليق والهبوط. الرفرفة والثقلة. الإشراق والانطفاء.. إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر. وأخصها سمة التغير والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال. يبدو ذلك في كلام البشر، واضحاً عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكر الواحد، أو الفنان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد.
أو أيٍّ كان في صناعته؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحاً.. وهو: التغير، والاختلاف..
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو: الثبات، والتناسق، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن- ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي- فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز- تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها- ولكن يتحد مستواه وأفقه، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى.. كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان.. إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية؛ ويدل على الصانع. يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال!.
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف.. والتناسق المطلق الشامل الكامل.. بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات. ويؤديه الأداء.. منهج التربية للنفس البشرية- والمجتمعات البشرية- ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة- ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد- وللمجتمع الذي يضم الأفراد وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال- ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معاً في عملية الإدراك!- ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته- في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته- وبين هذا الكون الذي يعيش فيه؛ ثم بين دنياه وآخرته؛ وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد؛ وفي عالم الإنسان وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام..
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحاً كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع. فما من نظرية بشرية، وما من مذهب بشري، إلا وهو يحمل الطابع البشري.. جزئية النظر والرؤية.. والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية.. وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة؛ التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوّناتها- إن عاجلاً وإن آجلاً- كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها؛ أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها.. إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف، الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة، فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة- في أية لحظة حاضرة!- وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل، الثابت الأصول؛ ثبات النواميس الكونية؛ الذي يسمح بالحركة الدائمة- مع ثباته- كما تسمح بها النواميس الكونية!
وتدبر هذه الظاهرة، في آفاقها هذه، قد لا يتسنى لكل إدراك، ولا يتسنى لكل جيل. بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها؛ وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقاً منها للأجيال المترقية، في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة.
إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهرة- كاختلافه الكثير في كل شيء آخر!- بقية يلتقي عليها كل إدراك، ويلتقي عليها كل جيل.. وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر. وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت، وإنما وحدة وتناسق.. ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق!
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر- حين يتدبر- يكل الله تلك الطائفة، كما يكل كل أحد، وكل جماعة، وكل جيل. وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن؛ وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله. ولا يمكن أن يكون من عند غير الله.
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله. فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم، سبيلاً إلى الغرور، وتجاوز الحد المأمون؛ والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل!